يغضب أو يسخط ويستاء الشباب فهو حر ، لكن أن يظل غاضب ساخط مستاء وآماله مشنوقة والحياة هي المقبرة بعد اعدام الآمال فهذا هو الخطر .. لقد شُنقت الآمال لكنهم لم يعدموا الزمن ولابد للشباب من حياة .. الشباب الغاضب يسمع كثيرا عن التنمية وخطط التنمية والزمن القادم؟! لكن سكنه لا يتغير بل الشارع الذي يعيش فيه لا يتغير بل الشوارع نفسها لا تتغير ، والناس لا تتغير ، والمشاكل لا تتغير ، والحال هو الحال ، وسياسة الحكومات لا تتغير ، والخطاب واحد ومتدني ، والمشاكل تزداد تعقيداً والفرص تتضاءل ، فكيف يثق في الخطط وفي التنمية أو أن الزمن يتحرك أو حتى يعتقد ويؤمن بالتغيير نفسه؟! غضب الشباب سحابة سامة تجوب آفاق الأوطان ، بل غضبه قذيفة مدفع مصنوعة من الغيظ والمرارة واليأس تصيب شباب الشارع والحارة والحي ، تصيب كل كائن منهم أينما كان ثم تكون اصابتها القاتلة في الوطن نفسه. الشباب الغاضب قنبلة موقوتة تنتظر وقت الانفجار.

يقول لي الشاب الغاضب ما الذي يجعلني كل يوم أنطلق ذهاباً وإياباً؟ فوعود الأمن والأمان لا تصيبني ولا أجدها ، ووعود الغد المشرق تتخطاني كما تخطت آبائنا وأمهاتنا وهي وهمية ، وإذا قطعوا لساني فإنني أستطيع أن أتحدث إلى نفسي بكل ما أكره وكل ما يغيظني ويسحقني ويستفزني وأستطيع نقله مثل العدوى لغيرى. أنا أبكي على اليوم والغد وأعود إلى أهلي وقلبي مملوء بالنار ، ورأسي كله شر ، وأستنكر بيوتهم الضيقة وحياتهم التعيسة واجتماعهم الخانق ومستقبلهم المبهم وخضوعهم واستسلامهم حيث تنتهي أيامنا وليالينا متشابهة كما انتهت الألوف منها من قبل بلا فائدة ولا أمل.

والشباب الغاضب غاضب لأسباب كثيرة أهمها غموض العدالة ومعيار الكفاءة ، والاستثناء ، والامتياز الذي ينتج عن هذا الغموض وعن المحسوبية والواسطة وألفاظ مثل “أهل الثقة” و”النخبة” و”أصحاب المهن السامية” و”الجهات السادية” ، والشباب يستطيع التفريق بين ما هو سامي وما هو منحط ويعلم أن جميع المهن سامية رفيعة شريفة كريمة ، وكرامة ورفعة الإنسان في الإتقان والإحسان مهما كانت المهنة ، فلماذا وصفوا مهنم بالسامية ولم يذكروا الكلمة الأخرى وأخفوها؟! الشباب يعرف أنه النعت والمنعوت بالصفة الخفية ، ثم يقولون له امتهن أنت هذه المهن الأخرى؟! الشباب يعلم أن هذه التخريفات والتقسيمات الوهمية طعنة في خصر الوطن لذلك هو غاضب. الشباب وَفِي يحب عقيدته ووطنه وسلاحه الحيوية ووسائله تكمن في الطموح والأمل.

على مقهى النادي الاجتماعي جلس عصبة من الرجال “الآباء” المتقاعدين ، وكانوا في خلاف شديد على الواقع والماضي وماذا سيحدث في المستقبل؟ وموقف الحاضر من المستقبل وكيف سيكون المستقبل؟ الشيء الوحيد الذي اتفقوا عليه كان أسمائهم ، وكان أمرهم عجيب فلا فكرة واحدة ولا توجه ولا ثقافة واحدة تربطهم معاً ، والواقع بينهم يترجم إلى وجهات نظر ، وهو واقع ولكنهم يرونه بعيون وعقول مختلفة ، “الواقع أسود” لكن هناك من يراه أحمر وآخر يراه رمادي حتى أن بعضهم يراه أبيض ، لماذا يختلفوا على الواقع؟ وما بالك لو تكلموا عن المستقبل؟! وهم أيضاً مختلفون على الشباب!! وليس لهم فيهم رأي واحد والغريب العجيب المدهش أنهم أولادهم وأحفادهم؟ وكأن هذا الحوار الخيالي التالي طاف برأس من كانوا يستمعون إليهم:

– الكل حائر غارق في واقع لا يستطيعوا الاتفاق عليه ، وهو واقع فما بالكم لو تناقشوا في الحقيقة؟!
– كيف ترتبط الحيرة بالحقيقة أليست هجرة الطيور حقيقة!! هي واقع وحقيقة ، إذن أيحتار فيها الناس وهي طبيعة! أيحتار الناس فيما هو طبيعي أم عليهم دارسته والتعلم منه ، كذلك الطغيان أو القمع أو القهر أو الظلم أو التعالي أو الاستبداد أو الفساد أو الاستثناء أو البغي!! هل هذا طبيعي فنحتار فيه أم أنه طبيعة لشيء آخر ووجه آخر لا نعلمه وبالتالي نحن في حيرة!!

– ربما لكن لماذا؟
– لأننا لابد أن نتعلم طبيعة الأشياء فطبيعة الأشياء لا حيرة فيها ، ولكن فيها حقائق “لو أنك شاهدت أسراب الطير وهي تعبر البحار والمحيطات والجبال والسهول والصحارى والوديان كل عام فيغرق منها من يغرق ويهلك منها من يهلك وينجو منها من ينجو ثم تعود أسراباً مرة أخرى إلى موطنها رغم الغرق والهلاك بعد أداء دورها الطبيعي وتمامه!! الطيور تتصرف بحرية طبيعية بالليل مع القمر والنجوم وبالنهار مع الشمس ، وهذا واقع نراه وهكذا تتكون الحقيقة بعده بالعلم ، فلماذا نراقب بكل قوة وفكر هذه الأسراب المهاجرة ونعرف واقعها وشأنها وحقيقتها ولا نختلف عليها رغم تنوعها واختلافها الكبير العظيم؟ ولا نعرف شيء عن الشباب وأنواعه ولا نراقب ولا ندرس واقعه وحقيقتة؟!

ونكتفي بهذا القدر عن الشباب الغاضب ونكمل الحديث عن نوع آخر إن شاء الله تعالى في المقالة القادمة لكشف نبع الطوفان ببلادنا “وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ”.